أخر الاخبار

نموذج تكسير البنية وتجديد الرؤيا: تحليل قصيدة "الخروج" لصلاح عبد الصبور

 نموذج تكسير البنية وتجديد الرؤيا: تحليل قصيدة "الخروج" لصلاح عبد الصبور



       عُرف الشعر العربي الحديث منتصف أربعينيات القرن الماضي، وهو لمَـَّا يَزَلْ حَدَثاً يحبو في دنيا التأسيس. وقد تناسلت مجموعة من الظروف والعوامل التي تفسر الإبدالات التي مسّت بنية هذا الفتح الشعري الجديد، لعل أبرزها: أحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتصاعد المد التحرري في الأوطان العربية، ثم نكبة ضياع فلسطين 48، بالإضافة إلى انفتاح الشاعر على الآداب العالمية والاغتراف من الفلسفات ومختلف الثقافات القديمة والحديثة. كل ذلك أسهم في تشكّل تصور جديد للشعر العربي، يؤسس لبدائل تعبيرية جديدة، تجاوزت القصيدة القديمة في بنيتها الإيقاعية والتركيبية والدلالية؛ وأتاحت للشاعر آفاقا رحبة قادرة على استيعاب مستجدات العصر، والتعبير عن انفعالاته وقلقه الوجودي بآليات فنية وتعبيرية جديدة، تستوحي الرموز والأسطورة. وقد اتسعت دائرة هذا الاتجاه الشعري الجديد، لتشمل الأقطار العربية؛ فبرز عدة شعراء كأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأدونيس، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وعبد الله راجع، ومحمد الخمار الكنوني، وصلاح عبد الصبور(31-1981) ويعد هذا الأخير أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي بمصر. استلهم الموروث الصوفي، ومجموعة من الشخصيات التاريخية والدينية في إنتاج شعره. وقصيدته "الخروج" التي بين أيدينا، هي خير ممثل لهذا الاتجاه. فعنوانها وبدايتها يشخصان واقع الاغتراب الذي يعيشه الشاعر في واقعه المأزوم، فيهرب منه نحو واقع جديد، مستلهما في ذلك أحداث هجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. فإلى أي حد وفق الشاعر في تمثل شعر تكسير البنية وتجديد الرؤيا؟ وما هي سمات قصيدته الدلالية وأبعادها الفنية؟ وما هي الوسائل التعبيرية الحداثية التي توسل بها الشاعر للتعبير عن رؤياه الشعرية؟

    تحكي قصيدة الخروج لصلاح عبد الصبور عن رحلة الاغتراب التي يبحر فيها الشاعر هروبا من زيف المدنية الحديثة، وشرورها، ومن واقع حياته المرير، في ظل هذه المدينة، إلى واقع آخر أكثر نقاء وصدقًا، وذات أخرى أكثر طهرًا. وقد قطع الشاعر أشواطا ومراحل في رحلته من نقطة البداية إلى نقطة الوصول، نوضحها على الشكل الآتي: 

    *خروج الشاعر من مدينته في الليل وحيدا، مطرحا آلامه، دون صديق يقاسمه عناء الرحلة، أو رفيق يفتقد غيابه، فهو غير آسف على أحد أو نادم على شيء.

   *معاناة الشاعر مع المسير وعذابه في رحلته، هو طهارة له من ماضيه، وبعث له من جديد.

   *وصول الشاعر إلى المدينة المنيرة محطة الطهر والنقاء، أو المدينة الفاضلة مدينة الصحو والشمس التي لا تغيب.

     تكشف القصيدة إذن عن تجليات ذات، يرفضها الشاعر، ويريد الانسلاخ عنها، في واقع موبوء يفر منه "موطني القديم" إلى ذات أكثر طهرا ونقاء، في مدينة يبعث فيها من جديد "المدينة المنيرة". وهذه الفكرة تعتبر نواة القصيدة وجوهرها، وقد جاء المعجم محيطا بها وكاشفا عنها. نوضح ذلك على الشكل الآتي:

   *حقل الذات الشاعرة: أخرج من مدينتي- مطرحا أثقال عيشي الأليم - أنسل تحت بابها بليل - أريد قتل نفسي الثقيلة - حجارة أصبح أو رجوم - سوانح الألم - آلام رحلتك - جسمي السقيم - عذاب رحلتي طهارتي - الموت في الصحراء بعثي المقيم...

   *حقل المدينة: موطني القديم - مهجري - المدينة المنيرة - مدينة الصحو الذي يزخر بالأضواء - الشمس لا تفارق الظهيرة - مدينتي المنيرة - مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا - تمج ضوءا...

    إن المدينة المنيرة عند صلاح عبد الصبور، هي مدينة البعث الجديد عنده، مدينة تقطع الصلة مع ماضيه، ومع ذات تلوثت بزيف الواقع القديم؛ فصارت مهترئة. وما يلفت انتباه في هذا المعجم، هي سهولته وبساطته الحادة؛ حيث تنحو كلماته وألفاظه منحى اللغة المتداولة. 

لكن هذا لا ينفي  توظيف الشاعر للرمز بشكله الديني. فالشاعر يستلهمً شخصية الرسول"محمد" صلى الله عليه وسلم، وحادث هجرته بالذات. فنجده يرمز للموطن القديم الذي يهجره ب"مكة المكرمة" دون أن يصرح باسمها، فهي ترمز إلى كل ما يجب الفرار منه، من زيف المدينة المعاصرة، وذاته التي لوثها هذا الواقع الموبوء(أخرج من مدينتي من موطني القديم مطرحًا أثقال عيشى الأليم). لكن الشاعر يخرج وحيدا منفردا(أخرج كاليتيم)، دون صاحب أو خليل(لم أتخير واحدًا من الصحاب)، خلاف "الرسول عليه الصلاة والسلام" الذي خرج رفقة صاحبه "أبو بكر الصديق رضي الله عنه". ودون أن يترك في موطنه القديم أهلا يسألون عنه أو يفتقدون غيابه، خلاف "الرسول عليه الصلاة والسلام" الذي ترك بعضا من أهله وأصحابه، خاصة "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه الذي أخذ مكانه في فراشه ليضلل الطلاب. فهو فار من أناه كاره لماضيه(حجارة أكون لو نظرت للوراء حجارة أصبح أو رجوم)، فلا يريد أن يصيبه ما أصاب امرأة "لوط عليه السلام"، عندما سمعت صيحة العذاب الذي نزل بقومها فالتفتت، فأصابها حجر فأهلكها مع الهالكين. ويستحضر الشاعر أيضا واقعة "سراقة بن مالك"، حين كان يطارد "رسول الله" وكيف ساخت أقدام حصانه، وهو يعاني ما يعانيه في مسيرة حياته، محاولاً التخلص من آلامه وأثقال الزيوف والضياع، وقطع الصلة مع ماضيه، والانسلاخ من أناه القديم(سوخي إذن في الرمل سيقان الندمُ لا تتبعيني نحو مهجري نشدتك الجحيم).


وأخيرًا بعد أن غسل الشاعر أعماقه، وانسلخ من ذاته المهترئة القديمة، يتحقق أمله في الوصول إلى مدينته(المدينة المنيرة، مدينة الصحو الذي يزخر بالأضواء...)، كما وصل "رسول الله" إلى المدينة المنورة.

  إن توظيف الشاعر للرمز الديني، لا يعني تخليه عن الصور الشعرية التقليدية؛ حيث وظف التشبيه والاستعارة. فحين يعبر عن وحدانيته، يشبه نفسه باليتيم (أخرج كاليتيم) الذي فقد والديه، فهو يرتحل عن موطنه وحيدا منفردا، لا صاحب له ولا رفيق، يشفق عليه، ويرأف لحاله، قاطعا الصلة مع ماضيه، فهو غير آسف عليه، أو نادم على ما فاته؛ لذا نجده يستعير للندم صفة إنسانية، هي السيقان(سوخي في الرمل سيقان الندم)، فيتمنى لو دفن في الرمل وما عاد حيا في الذاكرة، دلالة على قطعه الصلة مع هذا الماضي المشؤوم. 

 تستمر رحلة هروب الشاعر، فلم يعد يهتم لشقاء المسير، ولا قساوة عبور الصحراء؛ بل يعتبر ذلك طهارة له من آلامه(إن عذاب رحلتي طهارتي)، وبعثا له من جديد(الموت في الصحراء بعثي المقيم)، ليصل أخير إلى مدينته المنيرة المدينة التي طالما حلم بها، مسندا لها الكثير من الصفات الإنسانية على سبيل الاستعارة المكنية (تشرب ضوءا، تمج ضوءا)، دلالة على الضياء الذي تسطع به أرجاؤها، فلا تكاد شمس الظهيرة تغيب عنها.

لقد أسهمت هذه الصور الشعرية في كشف ملامح الاغتراب الذي عاشه الشاعر في مدينته، وشعوره الحاد باليأس والضجر، ورحلته بحثه المستمرة عن مدينته الفاضلة التي تخلصه من زيف هذا الواقع، وتبرئه من أناه القديمة.

     أما على مستوى الإيقاع، فنجد الشاعر ينزاح عن المعهود في القصيدة العربية؛ حيث خرج على إطار البيت الشعري القديم، فاعتمد نظام الأسطر الشعرية، وانتقل من البحر العروضي ذي القالب الوزني الصارم القائم على عدد محدد من التفعيلات، حدده العرف الشعري مسبقا إلى السطر غير المغلق الذي يستطيع فيه أن يكرر التفعيلة عددا غير محدد؛ حيث اعتمد تفعيلة الرجز(مستفعلن)، وأدخل عليها بعض التغييرات من زحافات وعلل خاصة في الأضرب التي صارت متنوعة(فعول/مستفعلن/مفاعلان).

   أما من حيث القافية، فقد كسر الشاعر نظام الوقفة العروضية الصارمة؛ فصار يطيل العبارة، ويسترسل فيها دون أن تحوجه القوافي التي تضع خاتمة لنهاية البيت. فالسطر الشعري لا ينتهي بانتهاء المعنى أو التفعيلة، بل بانتهاء الدفقة الشعورية المتحكمة في عاطفة الشاعر.

أما على مستوى الإيقاع الداخلي، فقد اعتمد الشاعر بكثرة على التكرار والتوازي. فنجد التكرار يشمل المستويات الآتية:

*الصوت:(النون،الميم،السين،الشين،الحاء، حروف المد...)

       *الكلمة: ونجد تكرارها يشمل تكرار التطابق:(مدينة- حجارة – الصحراء – الرؤى – ضوءا – رحلة - السماء – آلام - المنيرة...)،وتكرار الترادف:(مدينتي=موطني– عذاب =آلام- الضوء=المنيرة...)، وتكرار التجانس:(وهم/واهم – أليم/ألم – مت/الموت- سقيم/مقيم-...)

      *الجملة:(أم أنت حق؟)

     *تكرار الصيغ الصرفية:(فعيل: سقيم-جحيم- مقيم- قديم – يتيم... فعيلة: منيرة- ثقيلة- ظهيرة.  فعل: ألم- ندم- رمل...)

    ولا ننسى أيضا توظيف الشاعر للتوازي بنوعيه التركيبي النحوي، والصوتي الإيقاعي في المتتاليتين(مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا/ مدينة الرؤى التي تمج ضوءا). فالتوازي هنا صوتي إيقاعي ونحوي تركيبي تام.

    هكذا نجد صلاح عبد الصبور، يعمد إلى تكسير البنية التقليدية للشعر العربي القديم، والخروج على عموده وسلطته الصارمة، ليجد ذاته في القالب الشعري الحديث الذي استطاع احتواء تجربته الذاتية، والتعبير عن اغترابه في واقعه.

    أما على مستوى الأساليب، فنلاحظ هيمنة واضحة للأسلوب الخبري في القصيدة؛ لأن الشاعر يحكي لنا عن تجربة ذاتية يعيشها. أما الأسلوب الإنشائي فيكاد ينعدم؛ حيث ينحصر في أساليب: الأمر(انطفئي-تحجري-ولتنسني...)والنهي(لاتتبعيني)والاستفهام(هل أنت وهم...؟)والنداء(يا مدينتي). وقد أسهم هذا الأسلوب في كشف انفعالات الشاعر النفسية، ورغبته الجامحة في التخلص من ماضيه، والانسلاخ من ذاته، وتحقيق حلم الوصول إلى مدينته المنيرة. أما على مستوى الجمل، فنلاحظ هيمنة واضحة للجمل الفعلية التي تتناسب، وطبيعة القصيدة التي تنحو نحو الخطاب المحكي، يؤثث فضاءها استعمال الشاعر للفعل المضارع بشكل ملفت، فهو يؤشر بذلك على أن الشاعر انطلق فير رحلة حاضره دون أن يشعر بالندم على ماضيه، قاطعا صلته به، فكلما يريده هو التخلص منه، والانسلاخ من ذاته القديمة المهترئة بوصوله إلى المدينة المنيرة، وهو ما يفسره هيمنة ضمير المتكلم الذي يتناسب وطبيعة هذه التجربة.

     يمكن القول أخيرا إن الشاعر صلاح عبد الصبور، قد استطاع صياغة تجربته الذاتية "بحثه عن أناه الجديدة" ورؤياه الفنية لواقع الاغتراب الذي أضحى يعيشه الإنسان العربي بعد النكبة، في قالب فني مستحدث مثير، تمرد من خلاله الشاعر على سلطة الثوابت التقليدية للشعر العربي القديم، وكسر بنيته الفنية والشكلية المتوارثة؛ سواء على مستوى البنية أو الرؤيا. فعلى مستوى البنية، كسر الشاعر نظام الشطرين المتناظرين، والتزم عوضا عنهما نظام الأسطر الشعرية المتفاوتة في الطول والقصر، مكسرا صرامة الوقفة العروضية، ومنوعا في أضربها، معتمدا وحدة التفعيلة بدل البحر، ومحدثا فيها مجموعة من التغييرات؛ من زحافات وعلل. فضلا عن توظيف معجم بسيط، ينحو نحو الرقة والبساطة، والتلقائية في التعبير. أما على مستوى الرؤيا، فقد اعتمد الشاعر الرمز الديني؛ باستيحائه لحادث هجرة الرسول محمد صلى اله عليه وسلم، واعتماده السرد الحكائي والبناء الدرامي المثير لأحداث القصة. ليكون بذلك صلاح عبد الصبور بهذا البناء الفني المستحدث أحد أبرز شعراء الحداثة الشعرية العربية التي استطاعت بجرأة لا نظير لها خلخلة البنية الشكلية الإيقاعية للشعر العربي التي ظلت صامدة لقرون، وخلق شكل جديد يتناسب وواقع العصر الحديث، ويتفاعل مع حرية الشاعر في التعبير، ويدفعه أكثر للإبداع.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -